بغداد و قد انتصف الليل فيها للكاتبة
التونسية حياة الرايس (أستاذة فلسفة متخرجة من جامعة بغداد) هي رواية صدرت سنة
2018 و تضم 240 صفحة. هي سيرة ذاتية تسرد فيها الكاتبة لمحة عن حياتها في الطفولة
و حين دراستها كطالبة للفلسفة في كلية الآداب ببغداد سنة 1977. حينها كان العراق
يستقطب الطلبة من البلدان العربية المتعددة. عرفت فوبيا الإستخبارات و قوة حزب
البعث. عرفت أساتذة كبارا و عملت في الصحافة. عاشت أحداث عنف إبان الحرب العراقية الإيرانية. حتى بعد عودتها إلى تونس بقيت على
اتصال بالعراق الحبيب.
بغداد و قد انتصف الليل فيها
"بغداد و قد انتصف الليل فيها" عبارة جاءت من صوت المذيع بإذاعة بغداد سمعتها حياة الرايس التونسية المهاجرة للدراسة في جامعة بغداد سنة 1977.
"أخذتني الغيرة، لماذا أخذ الشرق السحر كله؟"
عند دخولها بغداد ذكرت
العباسة وأخوها هارون الرشيد و جعفر البرمكي و زبيدة و أروى القيروانية زوجة أبي
جعفر المنصور و بيت الحكمة.
نشأة حياة في تونس
نشأت في أسرة محافظة و سمح لها أبوها بالسفر
وسط دهشة الجميع. كانت "أمي بية" خالتها الكبرى مربية، ربت إخوتها و
أطفالهم و تحضا بمحبة الجميع لها.
في طفولتها سكنت حياة في باردو و درست في
معهد نهج الباشا للفتيات في مدينة تونس العتيقة و كانت تتردد على مكتبة العطارين و
هي أكبر و أقدم مكتبة في العاصمة بموافقة من والدها المحافظ. كانت تختلس طريقا من
أسواق المدينة العتيقة إلى "باب البحر" و هو باب من أبواب المدينة
العتيقة بقي من السور الشرقي الذي بناه الأغالبة في 1860. ثم تدلف إلى المدينة
العصرية، "مدينة الفرانسيس".
كما تصف الراوية أيام دراستها في الكتاب فتسترجع ذكريات المؤدب و حفظ القرآن و تعلم اللغة العربية.
كلية الآداب في بغداد
في بغداد سجلت في قسم الفلسفة و تعودت على
اللهجة العراقية حتى عاد حديثها مطعما بمفردات جديدة.
في كلية الآداب تعجبت لرؤية طالبات بعباءاتهن
التقليدية، جئن من الولايات الداخلية و ظللن ملتزمات بالعباءة لأنه شرط أولياء
أمورهن لمواصلة الدراسة في بغداد.
الكلية عريقة أسست سنة 1949، تقع في باب المعظم
الذي يحوي العديد من المعالم. في "الميدان" تتجمع الحافلات الحمراء ذات
الطابقين كما في لندن. كانت حياة تهرع إلى المكتبة الوطنية و دار الوثائق قرب
الكلية.
كانت الكلية تجمع بين جنسيات متنوعة إلى جانب
الجنسيات العربية. العراق متعدد الديانات و الأعراق. و كانت كلية الآداب خلية نشاط
ثقافي تعقد فيها أهم الندوات و المؤتمرات و الأمسيات الشعرية. و قد احتضنت فرسان
المعرفة و الثقافة العراقية و العربية.
الزميلات في رواية بغداد و قد انتصف الليل فيها
أول من التحقت بحياة في الغرفة نوال
الفلسطينية، ثم التحقت بهما صباح السورية ثم نهى اللبنانية. في الغرفة المجاورة
سكنت فلسطينيتان مسيحيتان من عائلة عريقة. خديجة اللبنانية كانت مسيحية ملتزمة في
حزب البعث العربي الاشتراكي. استأنست حياة لنيفين و هي مسيحية من الموصل من أصل
آشوري تتقن اللغة الفرنسية و السريانية، تدرس التاريخ. حدثتها عن المسيحية في
العراق.
في اختلاف اللهجات بين الطالبات وصلات ضحك و
نوادر.
تسأل الطالبات عن تونس و يستغربن للهجة.
" و مثلما كانت بعض البنات المشرقيات يطربن لنبرتي و إيقاع لهجتي...كنت أستعذب رحيق شهد الكلام الحلو في المشرق".
عرفت حياة في اختلاف اللهجات لذة اكتشاف
الآخر المختلف و عظمت في عينها اللغة العربية التي "تهتزّ و تتمايل بأكثر من
نغم".
يوم العطلة تطبخ كل واحدة من الطالبات في
الغرفة طبخ بلدها المشهور.
العلوم في العراق
كان العراق يولي أهمية للعلوم و كانت
الجامعات العراقية حتى سنة 1979 من أفضل جامعات المنطقة بدليل شهادة اليونسكو. بعد
الحرب العراقية الإيرانية و الاحتلال الأمريكي خرج حوالي ثمانية آلاف عالم عراقي و
قتل أكثر من 500 عالم إلى جانب عمليات تهجير العقول العراقية.
أساتذة الفلسفة في رواية بغداد و قد انتصف الليل فيها
مدني صالح هو أستاذ الفلسفة الذي علمها
الثورة على الخطوط المستقيمة و على الجرأة في التفكير و في الأسئلة. لم يكن بعثيا
فكان يُقطع من مرتبه. كان في مقهى القدس يحدث طلبته عن مسقط رأسه مدينة هيت
بتاريخها القديم. كان الطلبة يحضرون محاضراته و يقرؤون مقالاته في صحيفة
الجمهورية. ضلت حياة تتابع كتاباته حتى بعد عودتها إلى تونس بترددها على المركز
الثقافي العراقي بتونس. كما استفاد الطلاب من مؤلفات و أبحاث الأستاذ ياسين خليل و
كانوا يفخرون بكونه فيلسوفا و ليس أستاذا فحسب. هو أول علامة عربي في منطق
الرياضيات و في الفلسفة الوضعية المنطقية الجديدة لا سيما الألمانية.
فوبيا الإستخبارات
كان الجو مشحونا بفوبيا الاستخبارات و كان
جهاز المخابرات العراقي أقوى أجهزة المخابرات العربية على الإطلاق و قد أسسه صدام
حسين. كان هناك مندسين سريين في كل مكان فكان الطلبة يوصون أنفسهم بعدم التكلم في
السياسة.
و يحلو السهر في رواية بغداد و قد انتصف الليل فيها
في ليلة خرجت حياة مع رفيقاتها للسهر في
حدائق كورنيش دجلة بشارع أبي نواس.
"بدأنا نبحث عن باقي شباب شلتنا التي تسبقنا عادة إلى الشاطئ: شباب تونسيون و مغاربة و سوريون و لبنانيون و مصريون و فلسطينيون و سودانيون نعرفهم أو لا نعرفهم يفيض بهم كل ليلة كورنيش دجلة في لوحة فسيفسائية لا تجدها إلا في العراق الذي يفخر بسياسة استقطاب المثقفين العرب"
و يحلو السهر على شاطئ دجلة حيث السياح و
الشاشات التلفزية و الصالونات السياسية الأدبية الشعرية الثقافية و أغاني الأعراس
و الدبكة و قصائد الغزل. و لكن حدثت حادثة اختفاء صباح فتضافرت جهود الطلبة في
البحث عنها حتى عثروا عليها (اكتشفوا الحادثة في الكتاب).
العمل الصحفي
عملت حياة مع صديقتها روعة اللبنانية الطالبة
في قسم الإعلام بالعمل الصحفي من خلال كتابة مقالات في صحيفة ألف باء. ظلت على
اتصال دائم مع الأستاذ ماهر فيصل المسؤول في الصحيفة حتى بعد عودتها إلى
تونس. تعاملت مع نقاد كبار تعلمت منهم النقد الفني و إجراء الحوارات مع المفكرين و
الكتاب و منهم جبرا إبراهيم جبرا و عبد الرحمان منيف اللذان عرفا علاقة وطيدة مع
حياة.
جبرا ابراهيم جبرا ولد في فلسطين و درّس
الأدب الإنجليزي في جامعة بغداد.
"فأسس مع الفنان جواد سليم "جماعة
بغداد للفن الحديث"، سنة 1951 و تولى رئاسة "جمعية نقاد الفن في
العراق" و كان عضوا في "اتحاد الأدباء و الكتاب في العراق" و عضو
شرف في "جمعية المترجمين و الفنانين العراقيين".
بعد حوار صحفي مع الدكتور عبد الرحمان منيف صارت لحياة و صباح (لها صلة قرابة به) علاقة عائلية به و بزوجته. و فيما كتب عن الأنظمة القمعية العربية تستحضر الراوية:
"نحن اللذين خلقنا الجلادين و نحن الذين سمحنا لهم بتعذيبنا".
كانت حياة تحظر الندوات و المؤتمرات التي يقيمها
إتحاد إذاعات الدول العربية في بغداد. كلفها المشرف على الإتحاد بمهمة إعلامية في
عمّان و هناك اقتُرح عليها العمل كمراسلة إخبارية لإذاعة عمّان من بغداد.
إندلاع الحرب العراقية الإيرانية
في السنة الأخيرة للدراسة اندلعت الحرب
العراقية الإيرانية. أغلق مطار صدام حسين و احتارت حياة، و هي في تونس، في كيفية
العودة إلى بغداد. كما صارت تتساءل كيف أصبحت بغداد بعد الحرب و كيف يتصرف أهلها.
فطفقت تتابع باهتمام النشرات الإخبارية لتعرف كيف أصبح وجه مدينتها.
وصلت حياة إلى بغداد بعد سفر بالطائرة إلى
عمّان ثم بالحافلة إلى العاصمة العراقية. قصت عليها الطالبات اللاتي لم يغادرن
المدينة أخبار القصف و الرعب. البلكونة متأثرة بسقوط بعض القذائف و جدران الكلية
سوداء عليها أثر الرصاص. عملت متطوعة في العمل الشعبي ( إسعافات أولية، طبخ...).
في انقطاع الكهرباء درست على ضوء الشموع. تركض مع الطالبات فجرا عقب صياح صافرات
الإنذار للنزول إلى الملجأ.
و
ذكرت حياة آثار إيوان (كسرى أنوشروان) و معركة القادسية التي شهدت انتصار المسلمين
على الفرس بقيادة سعد ابن أبي وقاص. كما ذكرت مرقد صحابين و آثار الساسانيين.
لمحت سرب طائرات حربية ينزل منها وابل من
القنابل و ذلك أمام المفاعل النووي الذي كان يفخر به العراق.
العودة إلى تونس
لم تنقطع علاقتها بالعراق بعد التخرج إذ كانت
تأتيها دعوات لمناسبات ثقافية و كنت تتردد على المركز الثقافي العراقي بتونس. بعد
زواجها سافرت إلى العراق مدعوة مع زوجها لمهرجان المربد الشعري. هناك أقيم لها حفل
زفاف ثان. كما قامت ضمن برنامج المهرجان بزيارة إلى جبهة القتال بالبصرة.