يجمع كتاب يوميات نائب في الأرياف لتوفيق
الحكيم ما كتبه في يوميات في 12 يوما، من واقعه اليومي أثناء عمله كوكيل نيابة في الريف المصري. و صدر الكتاب سنة 1937. تصف لنا هذه
اليوميات معاينات النائب للحوادث و تحقيقاته في الجنايات ومحاكمات
المخالفات و الجنح. و من خلال نوعية القضايا و معاينة الأماكن و الأشخاص، تعكس اليوميات
واقع الفقر و الجهل و اللاوعي في المجتمع الريفي. كما يسخر توفيق الحكيم من
ظروف العمل و من القائمين عليه من خلال طرائف القاضي و المأمور و الحاجب، و من تطبيق
قوانين لا تتوافق مع عقليات الناس! فهو فعلا كتاب
من الأدب الواقعي يتناول المفارقات بأسلوب بسيط و فكاهي. إن مهنة وكيل
نيابة قد أكسبته دقة ملاحظة كفيلة بفهم طباع الناس، فهم مملكته الصغيرة، والكبيرة،
بل أوسع من ذلك: "الإنسانية".
السخرية من الشخصيات و من ظروف العمل في الريف في يوميات نائب في الأرياف لتوفيق الحكيم
·
في غرفته، كان نائب الأرياف يتقي من الفئران بوضع
ثلاثة مصائد معمرة بالجبن "و نصبتها حول سريري كما تنصب الألغام الواقية
حول سفينة من سفن الصليب الأحمر."
·
ليلة الخروج لموقع مقتل "قمر الدولة علوان"
سأل النائب الخفير عن كاتب التحقيق الذي سيصاحبه فأجاب: "لبس
القميص قدامي يا سعادة البك". فلما
اتضح بعد ذلك أنه في قميص نوم ضربه المأمور و قال: "يا خفير
ياابن...لبس القميص قدامك يا ابن ال..."
·
كان عليه و فرقته أن يصلوا إلى مكان الحادث بركوب الخيول
و الحمير، و كان أن سقط من ظهر الحصان الذي قفز في قناة ماء. فقال: "يظهر أن الحصان نام و هو ماشي، أو خاف من ثعلب
فارّ فجمح. و على كل حال امسك اللجام يا خفير"
·
في المحكمة كان الحاجب ينادي على الأسماء خارج قاعة
الجلسة كالباعة المتجولين. فلاحظ القاضي: "أنت يا شعبان قاعد تنادي على قضايا جنح و مخالفات، أوعلى بطاطة و بلح أمهات ؟"
فأجابه الحاجب : "جنح ومخالفات أو بلح أمهات، كله أكل
عيش"
·
المأمور يصف للعمدة ما يجب إحضاره من أكل للسيد النائب: "البك الوكيل لا يحب الخرفان على الصبح و لا الديوك
ولا حاجة أبدا، و لكن لا بأس منكم زغلولة مدفونة في الأرز، و القراقيش إياها و
الفطير المشلت..."
·
كان المأمور يستعين بالشيخ عصفور "المبارك"
حتى في قضايا الجنايات إذ قال: " الشيخ عصفور كله
بركة...مرة دلنا على بندقية مدفونة في قاع الترعة!"
الجهل و اللاوعي في أهل الأرياف المساكين أمام القانون
في يومياته يشبّه النائب في
الأرياف الناس الجالسين في المحكمة بالماشية، يجلسون القرفصاء، "يرفعون
عيونهم الخاشعة إلى القاضي و هو ينطق الحكم كأنه راع في يديه عصا". وكان
المخالفون بعد سماع الأحكام غير واعين بحقيقة ما ارتكبوا، فالحكم بالنسبة لهم غرم
و إتاوة يؤدونها. الشعب يجهل القوانين تماما، ففي قضية معارضة في حكم غيابي، رفض
القاضي النظر فيها لأن المعارضة تقدمت بعد الميعاد القانوني المحدد، فكان رد الرجل
المسكين: "أنا يا سيدي غلبان لا أعرف أقرأ و لا أكتب...و
من يفهمني القانون و يقريني المواعيد؟"
كما كانت التهم، المخالفات و الأحباس و
الجنح، تكشف عقليات الناس و ضعف مستوى العيش. فمن بينها مثلا عظة إصبع، ضرب
بالعصي، سرقة وابور، ضرب حرمة، تبديد قمح محجور... إلى ما يلي ذلك من الطرائف
أثناء استجواب الشهود في الجلسات و أثناء التحقيقات العينية ! فمثلا
في قضية تسمم، كان على النائب أن يستوفي جميع خانات استمارة طويلة تضم كل
التفاصيل(الاسم و العمر و الجنسية، الأعراض، الحالة الصحية السابقة، التوقيت...). لكن
المصابة كانت تإنّ ولم تستطع نطق حتى اسمها. أجابت امرأة أن اسمها نبوية و لا تعرف
النسوة لقبها :"لا ما نعرفش غير نبوية...أهي
في الحارة كنّا نقول لها تعالي يا نبوية، روحي يل نبوية... " !
وفي عدم تناسب
القوانين المطبقة مع المستوى المعيشي المتدني، يذكر توفيق الحكيم مقاضاة رجل
بتهمة غسل ملابسه في الترعة فحكم عليه بغرامة. و هو قانون "مستورد من
الخارج" يطبق على مساكين لا يملكون أحواضا لصب الماء من الأنابيب أصلا!
قضية مقتل قمر الدولة علوان
يتناول
توفيق الحكيم في يوميات نائب في الأرياف قضية جنائية : مقتل رجل بطلق ناري و كانت زوجته متوفية و ابنته عند
أخت زوجته. كانت فتاة فاتنة اسمها ريم، كان يمنع عنها الخاطبين، وقد جلبت الانتباه
لها. في المستشفى قال قبل وفاته أن ريم قد ضربته واختفت البنت بعد ذلك. لمحها النائب
يوما مع الشيخ عصفور فاستجوبه، فهل أخفاها ليحميها؟ فكان ذلك الشيخ الغريب يقول
شعرا و ألغازا!
تلقى النائب يوما رسالة من فاعل خير مفادها أن
الزوجة ماتت مخنوقة وقد تم التكتم على الأمر.فأخذنا توفيق الحكيم إلى
المقبرة إذ أمر بتشريح جثة الزوجة. وسنرى أحداث النبش مع اللحاد و التشريح مع
الطبيب الشرعي !
ما كتب توفيق الحكيم في اليوميات عن مهنة وكيل النيابة
"فوكيل النيابة إن هو إلا حاكم صغير في مملكة صغيرة، إذا فهم كل شيء في هذه المملكة، ولاحظ كل شيء، و درس الناس و طباعهم وغرائزهم، فقد استطاع بعد ذلك أن يعرف تلك المملكة الكبيرة التي هي دولته، بل استطاع أن يفهم ذلك العالم الأوسع الذي هو "الإنسانية".ولكن كم من رجال النيابة أو القضاة يستطيع أن يلاحظ؟...إن قوة الملاحظة هي أيضا هبة عظيمة لا يملكها كل الناس "