الجمعة، 1 نوفمبر 2019

دروب لميخائيل نعيمة: مجموعة مقالات محورها الإنسان

كتاب دروب جمع 24 مقالا مما كتب ميخائيل نعيمة في مستوى فكري عال. لنفهمْ من خلال عبقرية الكاتب حياة الإنسان، فعله، طبعه، وجوده، علاقته بالإنسان و بما حوله! الأسلوب واضح و عميق، المواضيع تهم كل إنسان يسعى لفهم نفسه و للاستدلال للصواب من التفكير و الفعل. أدعوكم لقراءة كتاب دروب، و أعيدوا القراءة، ستحبّون أنفسكم و ستحبّون الحياة! 

لمحة عن محتوى بعض المقالات من كتاب دروب لميخائيل نعيمة

دروب الحياة

أوّل مقال عنوانه دروب الحياة، و منها الجسد الذي هو شبكة محكمة الصنع من الدروب المتواصلة. فلكل لقمة و نسمة و قطرة درب تسلكه داخلنا. كما أن لداخل الجسم أيضا طرقا إلى الخارج، فكل فكرة كانت مسلكا لإنسان و كل شهوة إلى حي أو شيء. "فلا عزلة لي عن العالم و لا  للعالم عني". و لا حصر لمسالك الأحياء و الظواهر الطبيعية التي تصب كلّها إلى غاية البقاء. لكن كلها تؤدي لا محالة إلى الموت و ذلك لا يعني أن غاية الحياة هي الموت، إذ هي تتجدد بالموت. فتوصّل ميخائيل نعيمة للقول أن:
  "الموت ليس النهاية التي نتوهم. بل هو درب من دروب الحياة".

عالم يشكو

 يشكو الناس من الناس، من الطبيعة (الزلازل و الحر و القر...)، و يشكو الحيوان من الجوع و من الفراق (عوى الكلب و ناحت الحمامة). هي من الطبيعة و تدعو الحي للسعي للتخلص مما يشكو. لكن للإنسان عقل و إرادة و الشكوى ضعف في العقل و الإرادة! فالعلماء و المخترعون و المبتكرون ما شكوا الصعوبات التي اعترضتهم لأنهم كانوا واثقين من قدرتهم على تجاوزها. قد نُبتلى أحيانا بجمع من المتذمرين، من الطقس و الغلاء و الفساد و المدرسين، ثم  أنهم يغدقون في الغيبة و النميمة. و يقول ميخائيل نعيمة  "أما أحسست نفسك كالمصاب بالجرب  ؟ أما تمنيت لو تهرب من هؤلاء الناس إلى حيث تلقى بشرا يفكرون و لا يشكون، و يعملون و لا يتذمرون، و يسيرون في طريقهم و لا يتأففون؟". كما قال "ما أجمل الصمت عند المصيبة!".

ماهية الأدب و مهمته

و في إحدى مقالات كتاب دروب، يطرح ميخائيل نعيمة مسألة ماهية الأدب و مهمته. فيرى أن في صراع الإنسان مع الحياة، كانت العلوم و الفنون و الفلسفة و الديانات تُعنى كل منها بجانب من جوانب الصراع. يشبهها بأنها مجار تنساب في مجال مستقل لا تشكل محيطا. أما المحيط الذي تلتقي فيه كل تلك المجاري فهو الأدب، و الأدب لا حدود له. يقول أنه وجد فيه "المعبّر الأفضل عن النفس البشرية" و اتخذ مثال الإلياذة لهوميروس و رواية الإخوة كرامازوف لدوستويفسكي: 
"نحن نخرج منها شاعرين أن الإنسان سُلّم أسفله في الأرض و أعلاه في السماء" 
 كما قال في مهمة الأدب: 
"مهمة الأدب هي التعبير عن الإنسان و كل حاجاته و حالاته تعبيرا جميلا، صادقا من شأنه أن يساعد الإنسان على تفهم نفسه و تفهم الغاية من وجوده، و أن يمهد له الطريق إلى غايته. و إذن فللأدب رسالة سامية"     

صغار النفوس و كبارها

يصف ميخائيل نعيمة أصحاب النفوس الكبيرة بالنحل و أصحاب النفوس الصغيرة بالذباب. كبار النفوس لا يحبون الغيبة و النميمة و لا التبجح بمال أو جاه أو شهرة.  لا يظهرون أمام الناس بغير حقيقتهم، لا يتكبرون و لا يذلون لإنسان. كما لا ينحدرون  إلى الصغائر مثل أن يحسدوا حاسديهم أو أن يشتموا شاتميهم. إذا أعطوا "فيسراهم_على حد قول السيد المسيح_ لا تدري بما تفعله يمينهم". أما صغار النفوس فيتحدثون عن شرفهم و عزتهم، يردون اللكمة لكمتين، و إذا تصدقوا قليلا تمنوا لو سمع الكل بما تصدقوا به ! ثم يتبجحون بما اشتروا و ما زاروا من بلدان و ما اقتنوا من التحف.
في أي خصام كان، ستجد صغارة في نفوس المتخاصمين:
"فما اختصم اثنان إلا لأن صدر الواحد ضاق بالآخر. و الصدر يضيق أو يتسع على قدر ما تصغر النفس أو تكبر. ففي حين أن النفس الصغيرة تضيق بالكبيرة فتناصبها العداء، تتسع الكبيرة للصغيرة فتقابلها إما بالصفح و إما باللامبالاة"

حسنات النكبات

"ها هي الطبيعة لا تنفك تذكّر الإنسان من حين إلى حين بأنها ما برحت سيدة الميدان".
  فكانت الظواهر الطبيعية تفتك بالإنسان فتكا كنكبات الزلازل و الأعاصير و الفيضانات و غزوات الجراد و الأوبئة. هي مصائب و لكن لها "وجها مشرقا". إذ يكمن ذلك في إيقاظ الضمائر و إثارة التعاطف. و ذكر ميخائيل نعيمة  مثال نكبتين حصلتا في لبنان( فيضان نهر في طرابلس و زلزال في الجنوب). فإذا بالخبر ينتشر في ساعات و بالمعونات تتدفق. كما ذكر أنه تلقى رسالة من رجل في هونغ كونغ كان  قد قرأ له كتاب "مرداد" مترجما بالإنجليزية. كتب ليسأل عن سلامته و أرسل حوالة بمبلغ مالي لإعانة المنكوبين.
و من حسنات النكبات أنها تحث الإنسان للبحث عن أسبابها و عن حلول للوقاية منها. كما أنها تمحو الفوارق بين الناس، الكل سواسية أمام العواصف و الوباء و الزلزال. فالمال و السلطان و المراتب لا تحصّن الإنسان "فهي للفناء و هو للبقاء". و أخيرا يوضح لنا ميخائيل نعيمة موعظة أخرى و هي أن هذه النكبات تدلنا على أن للإنسان غرض لوجوده غير استثمار الأرض:
"ألا و هو استثمار القوى الكامنة فيه استثمارا يجعله سيد الأرض، عساه أن يقفز منها إلى السماء. و إلّا لما دام صراعه المرير مع الأرض ملايين السنين، و لابتلعته الأرض من زمان".

عناوين بقية مقالات كتاب دروب

الشباب ثروة و ثورة
الملاذ الأول و الأخير
رسالة الشرق المتجدد
عاما سعيدا
الشرف الرفيع
الناجحون و الراسبون
صابون القلوب
دفاع عن الظلمة
همجية المتمدنين
بين الحق و القوة
الذوق الرفيع
قليلا من الصمت و التأمل
التردد
عندما يحرن الزمان
ملحمة الملاحم
حلفاء الاستعمار
أكلوني البراغيث
الأديب و الناقد
أصلح نفسك يصطلح العالم






السبت، 19 أكتوبر 2019

يوميات نائب في الأرياف لتوفيق الحكيم: واقع الريف المصري بأسلوب فكاهي

يجمع كتاب يوميات نائب في الأرياف لتوفيق الحكيم ما كتبه في يوميات في 12 يوما، من واقعه اليومي أثناء عمله كوكيل نيابة في الريف المصري. و صدر الكتاب سنة 1937. تصف لنا هذه اليوميات معاينات النائب للحوادث و تحقيقاته في الجنايات ومحاكمات المخالفات و الجنح. و من خلال نوعية القضايا و معاينة الأماكن و الأشخاص، تعكس اليوميات واقع الفقر و الجهل و اللاوعي في المجتمع الريفي. كما يسخر توفيق الحكيم من ظروف العمل و من القائمين عليه من خلال طرائف القاضي و المأمور و الحاجب، و من تطبيق قوانين لا تتوافق مع عقليات الناس! فهو فعلا كتاب من الأدب الواقعي  يتناول المفارقات بأسلوب بسيط و فكاهي. إن مهنة وكيل نيابة قد أكسبته دقة ملاحظة كفيلة بفهم طباع الناس، فهم مملكته الصغيرة، والكبيرة، بل أوسع من ذلك: "الإنسانية".

السخرية من الشخصيات و من ظروف العمل في الريف في يوميات نائب في الأرياف لتوفيق الحكيم

·         في غرفته، كان نائب الأرياف يتقي من الفئران بوضع ثلاثة مصائد معمرة بالجبن "و نصبتها حول سريري كما تنصب الألغام الواقية حول سفينة من سفن الصليب الأحمر."
·         ليلة الخروج لموقع مقتل "قمر الدولة علوان" سأل النائب الخفير عن كاتب التحقيق الذي سيصاحبه فأجاب: "لبس القميص قدامي يا سعادة البك".  فلما اتضح بعد ذلك أنه في قميص نوم ضربه المأمور و قال: "يا خفير ياابن...لبس القميص قدامك يا ابن ال..."  
·         كان عليه و فرقته أن يصلوا إلى مكان الحادث بركوب الخيول و الحمير، و كان أن سقط من ظهر الحصان الذي قفز في قناة ماء. فقال: "يظهر أن الحصان نام و هو ماشي، أو خاف من ثعلب فارّ فجمح. و على كل حال امسك اللجام يا خفير"  
·         في المحكمة كان الحاجب ينادي على الأسماء خارج قاعة الجلسة كالباعة المتجولين. فلاحظ القاضي: "أنت يا شعبان قاعد تنادي على قضايا جنح و مخالفات، أوعلى بطاطة و بلح أمهات ؟" فأجابه الحاجب : "جنح ومخالفات أو بلح أمهات، كله أكل عيش"
·         المأمور يصف للعمدة ما يجب إحضاره من أكل للسيد النائب: "البك الوكيل لا يحب الخرفان على الصبح و لا الديوك ولا حاجة أبدا، و لكن لا بأس منكم زغلولة مدفونة في الأرز، و القراقيش إياها و الفطير المشلت..."
·         كان المأمور يستعين بالشيخ عصفور "المبارك" حتى في قضايا الجنايات إذ قال: " الشيخ عصفور كله بركة...مرة دلنا على بندقية مدفونة في قاع الترعة!"

 الجهل و اللاوعي في أهل الأرياف المساكين أمام القانون

في يومياته يشبّه النائب في الأرياف الناس الجالسين في المحكمة بالماشية، يجلسون القرفصاء، "يرفعون عيونهم الخاشعة إلى القاضي و هو ينطق الحكم كأنه راع في يديه عصا". وكان المخالفون بعد سماع الأحكام غير واعين بحقيقة ما ارتكبوا، فالحكم بالنسبة لهم غرم و إتاوة يؤدونها. الشعب يجهل القوانين تماما، ففي قضية معارضة في حكم غيابي، رفض القاضي النظر فيها لأن المعارضة تقدمت بعد الميعاد القانوني المحدد، فكان رد الرجل المسكين: "أنا يا سيدي غلبان لا أعرف أقرأ و لا أكتب...و من يفهمني القانون و يقريني المواعيد؟"
كما كانت التهم، المخالفات و الأحباس و الجنح، تكشف عقليات الناس و ضعف مستوى العيش. فمن بينها مثلا عظة إصبع، ضرب بالعصي، سرقة وابور، ضرب حرمة، تبديد قمح محجور... إلى ما يلي ذلك من الطرائف أثناء استجواب الشهود في الجلسات و أثناء التحقيقات العينية ! فمثلا في قضية تسمم، كان على النائب أن يستوفي جميع خانات استمارة طويلة تضم كل التفاصيل(الاسم و العمر و الجنسية، الأعراض، الحالة الصحية السابقة، التوقيت...). لكن المصابة كانت تإنّ ولم تستطع نطق حتى اسمها. أجابت امرأة أن اسمها نبوية و لا تعرف النسوة لقبها :"لا ما نعرفش غير نبوية...أهي في الحارة كنّا نقول لها تعالي يا نبوية، روحي يل نبوية... " !
وفي عدم تناسب القوانين المطبقة مع المستوى المعيشي المتدني، يذكر توفيق الحكيم مقاضاة رجل بتهمة غسل ملابسه في الترعة فحكم عليه بغرامة. و هو قانون "مستورد من الخارج" يطبق على مساكين لا يملكون أحواضا لصب الماء من الأنابيب أصلا!   

قضية مقتل قمر الدولة علوان

 يتناول توفيق الحكيم في يوميات نائب في الأرياف قضية جنائية : مقتل رجل بطلق ناري و كانت زوجته متوفية و ابنته عند أخت زوجته. كانت فتاة فاتنة اسمها ريم، كان يمنع عنها الخاطبين، وقد جلبت الانتباه لها. في المستشفى قال قبل وفاته أن ريم قد ضربته واختفت البنت بعد ذلك. لمحها النائب يوما مع الشيخ عصفور فاستجوبه، فهل أخفاها ليحميها؟ فكان ذلك الشيخ الغريب يقول شعرا و ألغازا!
تلقى النائب يوما رسالة من فاعل خير مفادها أن الزوجة ماتت مخنوقة وقد تم التكتم على الأمر.فأخذنا توفيق الحكيم إلى المقبرة إذ أمر بتشريح جثة الزوجة. وسنرى أحداث النبش مع اللحاد و التشريح مع الطبيب الشرعي !

ما كتب توفيق الحكيم في اليوميات عن مهنة وكيل النيابة

"فوكيل النيابة إن هو إلا حاكم صغير في مملكة صغيرة، إذا فهم كل شيء في هذه المملكة، ولاحظ كل شيء، و درس الناس و طباعهم وغرائزهم، فقد استطاع بعد ذلك أن يعرف تلك المملكة الكبيرة التي هي دولته، بل استطاع أن يفهم ذلك العالم الأوسع الذي هو "الإنسانية".ولكن كم من رجال النيابة أو القضاة يستطيع أن يلاحظ؟...إن قوة الملاحظة هي أيضا هبة عظيمة لا يملكها كل الناس "
        


الأحد، 13 أكتوبر 2019

رواية أرض النفاق ليوسف السباعي: الأخلاق و النفاق بأسلوب كاريكاتوري

رواية أرض النفاق هي رواية للكاتب المصري يوسف السباعي كتبت سنة 1949. بأسلوب ساخرو فكاهي، يستعمل الكاتب الخيال لتحليل صفات مكارم الأخلاق و صفات النفاق و الرياء و تداعياتها. هي رواية ممتعة تجمع بين الحكمة و الفكاهة. ستبتسم و تضحك و تفكر! 
تبدأ الرواية بملاقاة الراوي بمتجر كتب على لافتته "تاجر أخلاق". كان التاجر رجلا حكيما، رزينا، يبيع مساحيق من مكارم الأخلاق: الصراحة، النزاهة، العفة، الكرم...و كان البيع بدون دفع نقود إذ كان التاجر يقول: "الحساب يوم الحساب". كما وصف بضاعته بأنها "مودة قديمة" لم يعد يسأل عنها أحد. ثم إنه لم يغيرها ببضاعة النفاق لأنه لم يبق منها شيء( المكر و الرياء و الخسة). فقد كثر الطلب و تم الاستيلاء عليها  فطالب الشعب بنصيبه منها، فأُمربرميها في النهر ليشرب الكل من ذلك الماء حتى صارت الأرض أرض النفاق
ابتاع الراوي مقدار عشرة أيام من مسحوق الشجاعة، فشهد عددا من الاشتباكات انتهت به في مركز الشرطة، واتُّهم بالجنون في بيته و في عمله. رجع للمتجر بحثا عن بعض الجُبن ليبطل مفعول الشجاعة فلم يجد إذ كان من البضاعة النافذة، فأخذ مسحوق المروءة! على إثرها، شعر بالرغبة في العطف على الناس، فاستغل كرمه المخادعون و كان لا يأبه لسخرية الناس من إفراطه حتى أعادوا اتهامه بالجنون. فهرب إلى تاجر الأخلاق الذي آواه وهناك تمكن من أخذ كيس "مسحوق الأخلاق المركز" لرميه في النيل رغم رفض صاحب الحانوت. ثم صارت اضطرابات كبيرة ناتجة عن كشف الخفي من العيوب و افتضاحها بعد أن شرب الناس من مياه الأخلاق!
تأثير جرعة الشجاعة
تناول مسحوق الشجاعة  أكسبه النشاط و الحماسة. قبل ذلك كان الراوي محايدا، رصينا و يقدر العواقب و كان لا يتدخل حين يسمع حماته تضرب الخادمة، يومها تدخل للدفاع عنها. في الشارع أشار لسائق الحافلة فلم يتوقف، اشتبك به و آل الأمر إلى مركز الشرطة  حيث تواصلت تدخلات الشجاع المتحمس: هجم على رجل يضرب زوجته فانهالت عليه الشتائم  و اللكمات. واجه الباشجاويش طالبا منه أن يكون أكثر أدبا و إذا به "على الأسفلت". حينئذ لام نفسه لسوء استعماله للشجاعة و قررأن يركز في استغلال شجاعته في أعمال جليلة و لا في أمور لا تستحق. ففكر في طريقة عملية لتحرير فلسطين فاتجه إلى مبنى الأمانة العامة حيث قال للحراس أنه جاء لمهمة "سيهتز لها الشرق"فآتُّهم بأنه صهيوني يريد نسف البناء و رُمي به في السجن.

في عمله، كان صاحبنا سابقا إذا تأخر يلتمس الوسائل ليوهم الآخرين بقدومه باكرا. و كان مؤدبا مع رئيسه إبراهيم أفندي  الكسول التافه يسمع أحاديثه المضحكة السخيفة  بإعجاب زائف و يغدق عليه  بعبارات الإعجاب و التقدير. لمّا صار شجاعا، أقدم متأخرا و صارح رئيسه بذلك، و طفق يسخر من صبغة شعره و يلومه على تفاهة حكاياته! خرج إلى مكتبه و سخط على بطء الأعمال الحكومية فكتب الشجاع مذكرة إعادة نظر في ملف أرملة مرفوض لعدم اقتناعه بأن الحكومة لا تتحمل الأعباء. ووصلت به جرأته إلى كتابة مشروع إصلاحي حمله إلى مكتب الوزير، وكان الرد: "يُكشف على قواه العقلية"

خرج فتلقى "علقة" بعد أن اندفع للدفاع عن صاحب حانوت هاجمه بعض الرعاع وسط مظاهرة، فجرى إلى بيته طالبا من أخيه أن ينقذه و يأتيه ب"شوية جبن"! فكان "مجنونا" و هو في أرض النفاق.
تأثير جرعة المروءة
في أرض النفاق تم استهلاك مسحوق الجبن كاملا و لم يعد متوفرا للبيع. فلما رجع الشجاع للتاجر، اقترح مده بنوع آخر من الأخلاق لاستبدال الشجاعة، فأخذ مقدار تسعة أيام من المروءة. بعد هذه الجرعة أحس بصفاء النفس و الرغبة في مساعدة الغير. رأى كلبا عطشا فحمله إلى البيت ليسقيه و هناك عض جميع من فيه فصاروا نزلاء مستشفى الكلاب! 

ثم اختار أن يذهب إلى حي بلدي فقير ليساعد الناس، فقابل شحاذا مسكينا أراد أن يحسن له بأن يدعوه للغداء في مطعم الحي. بعد الغداء لم يجد محفظة النقود فدفع الشحاذ الثمن عنه ثم ناوله المحفظة التي سرقها خلسة و قال له "إنّك على نياّتك". ثم قاده إلى مجمع الشحاذين أين كان الشحاتون يتعلمون تصنع العاهات بإتقان و يستعينون بمؤلفين لأغاني التسول. ففهم الكريم النبيل أنه في أرض النفاق عليه أن يحسن لمن يستحق المروءة: المحتاج الذي لا يمد يده، و ليس العكس! 

فقصد قريبا له ابن يوشك على الانقطاع عن دراسته الجامعية بسبب نقص الإمكانيات. اشترى لهم موزا و بيضا مع حمامتين من رجل أتى من الريف أحب أن يبتاع بضاعته لمساعدته على دفع أجرة سفره هو و امرأته. ثم اكتشف الخداع: طارت الحمامتان، البيض كان فاسدا و تحت الموز كان الخليط مزيجا من أشياء لا علاقة لها بالموز! لم يكن إلا أن حمد الله على سلامته و أعطى لقريبه عشرين جنيها كان قد أخذها من بيته من نقود التصييف: "اشتريت بها من المتعة مالا يقدر بمئات الجنيهات". كما خلع صاحب المروءة بدلته ليعطيها للطالب الفقير، و خرج صاحبنا الكريم بقميص نسائي أعطاه له قريبه المسكين ليستر بدنه. وكانت الطامّة عند استقباله في البيت و اتهموه أيضا بالجنون.

فر هاربا إلى تاجر الأخلاق بحثا عن حل لمصيبته فقال له: "ابق معي بضعة الأيام الباقية..حتى يذهب مفعول المروءة...حتى تعود إلى ما كنت عليه من سوء الخلق".
سُكب كيس خلاصة الأخلاق في نهر النيل و انتشر تأثيره في أرض النفاق
مكث صاحب المروءة في الحانوت. أصر على خطف كيس مركّز الأخلاق خلسة، واستطاع رميه في النهر بنية إصلاح خلق الناس  في أرض النفاق رغم تحذير الرجل الحكيم له.
خرج الاثنان للعزاء يوم وفاة إبراهيم أفندي أين كثرت همسات المدح بجميل الصفات. لكن بعد شرب الماء، تم إبطال مفعول مسحوق النفاق: "أضحوا جميعا بلا نفاق يستر نفوسهم". فصارت أرملته تشبعه بعبارات الذم والفضح لمساوئه أمام الحاضرين اللذين بدورهم انكبوا في لعنه. إذ قالت مثلا: "دا صنف لئيم ما بجيش إلا بالدق. يا ما نكد علي..و فرج علي الناس...آل رئيس قلم آل..والله ما كان يسوى حتى ساعي ولا فراش". 
و في حفلة انتخابية كان المرشح حتحت باشا محمولا على الأكتاف و علت الهتافات: "يحيا نصير الحرية..يحيا مرشح الاستقامة..نموت و يحيا حتحت". و كان الخطيب يمجده: "الرجل النموذجي الكامل...الرجل النزيه الصادق الوعد...". و بعد جرعة ماء انطلق يفضحه في سخرية: "يا لضيعتنا و ضيعة البلد التي تهب أمثالك كرسي النيابة، و أنت لا تستحق إلا كرسيا في قهوة بلدي..أو كرسي مطبخ!". ضربوه الحراس ثم قام المرشح يخطب بالحاضرين:"أنا رجل جاهل...أيها الناخبون الكرام...أنتم كرام حتى تنتخبوني...فإذا ما فزت في المعركة فأنتم أوغاد". 
كما كانت الصحف تنقل الحوادث الخطيرة: قتل قرابة ألف و خمسمائة حماة، فرار قرابة خمسة آلاف زوج من زوجاتهم...موجة الاضطرابات تلتها استقامة للأمور بعد أن كشفت الأقنعة و تملك الناس الخزي. أخذ الشعب حقوقه و بعثت المشاريع النافعة. كما راجت تجارة الرجل في بيع مساحيق الأخلاق.

بعض الوقفات الفكرية في رواية أرض النفاق ليوسف السباعي 

  • نسبية الجنون و العقل: "لا أظن هناك حدودا معروفة فاصلة بين الجنون و حالة العقل..إذ ليس هناك مقاييس للعقل تجعلها مستوى للمقارنة..فالمسألة..كلها مسألة نسبية...فأعقل الناس أشدهم نبوغا، و أشدهم نبوغا أكثرهم جنونا" 
  • من يستحق الإحسان: "إن هناك الملايين ممن يستحقون العون و لا يجسرون على أن يمدوا أيديهم للسؤال..أولئك الذين فقدوا كل شيء..إلا ماء وجوههم..والذين أضاعوا كل ما يملكون. إلا كرامتهم" 
  • لا تلتمس شكرا واتق شر من أحسنت إليه" : "إن هؤلاء البشر كلاب مسعورة، و أفاع رقط..فإذا دفعتك مروءتك إلى أن تعطيهم إحسانا فاقذف به إليهم ثم اجر من أمامهم..اعطهم الفضل و فر منهم..لا تنتظر حتى مجرد الشكر..انج بنفسك..واذكر المثل..اتق شر من أحسنت إليه"
  • النفاق و ستر الحقائق: "ما أعظم النفاق يا صاحبي و أجزل فوائده! إنه يستر عورات الحياة و يزخرف خبائثها..إن النفاق يعين الناس على تحمل ويلاتها...يغمض أعينهم عن خطاياهم و شرورهم..ولولاه لانكشفت الحقيقة فانتحر الناس جزعا"
  • محدودية الحزن و الفرح: "الذي يفقد ثلاثة أولاد لا أظنه يحزن ثلاثة أضعاف الذي يفقد ولدا، و الذي يربح ألف جنيه لا تظنه يفرح عشرة أمثال من يربح مائة. إنها رحمة من الله أن جعله يحزن بقدر..و أن جعل مشاعره محدودة الطاقة، و إلا قضت عليه....انكشاف الحقيقة لن يقضي عليه بل سيفزعه و يروعه..ثم يفيق من الصدمة..و يتمالك نفسه و يبدأ في مواجهة الحقائق الموجعة محاولا جهده أن يصلح أمره"
  • لا تفرح بالكثير المنقطع: "لا تقبل النعمة الطارئة قط..لا تفرح بالكثير المنقطع..فسيجعلك تكفر بالقليل الدائم الذي وطنت نفسك على قبوله و الرضا به..إذا كنت تسير على قدميك فإياك أن تركب برهة..و إلا ذاقت قدماك نعمة الركوب و الراحة، و كرهت السير الذي طالما اعتدته"



السبت، 21 سبتمبر 2019

قراءة رواية خان الخليلي لنجيب محفوظ: الحي و الشعب و الفشل و السخط

تدور أحداث رواية خان الخليلي لنجيب محفوظ في القاهرة سنة 1941خلال أحداث الحرب العالمية الثانية.  
هي قصة أحمد عاكف، شاب في الأربعين من عمره انتقل مع عائلته من حي السكاكيني إلى خان الخليلي بحثا عن مأمن من قصف الألمان. هو حي مصري نرى فيه ملامح الحياة اليومية للمصريين و منها أحاديث الرجال في المقاهي و العادات في شهر رمضان و في الأعياد. أحمد عاكف موظف عرف السخط و الفشل فملكه الاعتداد المزيف بالنفس و الكبرياء اللذان زاداه ركودا. فشل في التقرب لبنت مقيمة في الجوار أحبها بينما تمكن من ذلك أخوه الأصغر اللاهي العابث. تنازل عن حبه و حتى بعد موت أخيه بعد صراع مع المرض. 

وصف الحي المصري في رواية خان الخليلي لنجيب محفوظ

 نعيش مع شخصيات هذه الرواية في عبق المكان الأصيل إذ يصف لنا نجيب محفوظ بدقة حي الحسين في خان الخليلي (العمارات، المقاهي، الدكاكين، الأصوات المنبعثة من الشارع، المارة)...هذه بعض المقاطع: " شاهد فيما حوله مقاهي عامرة و مقاهي متباينة_ما بين دكان طعمية و دكان تحف و جواهر_و رأى تيارات من الخلق لا  تنقطع، ما بين معمم و مطربش و مقبّع، و ملأت أذنيه أصوات و هتافات وو نداءات".
رأى جماعات من الصبيان والبنات يملؤون الطريق متصايحين متضاحكين و قد انقسموا فرقا أكب كل فريق على رياضة... و سمع أناشيد عجيبة "يا عمّ يا جمّال..."و"يا أولاد حارتنا توت توت"و"الجبل ده عالي ياعمي"إلخ إلخ".
 وينقل لنا نجيب محفوظ ما ُيسمع في شوارع خان الخليلي "يا فتاح ياعليم"٬ "يا ألف نهار أبيض، هات شايا، هات نارجيلة". 
 كما نذكر المأكولات الشعبية المصرية ضمن المعيش اليومي لشخصيات الرواية في هذا الحي(طعمية، سلطة، باذنجان، كباب، نيفة، كوارع، لحمة راس...). 

في الإطار العام للقصة نجد أيضا أجواء رمضان و العيد في خان الخليلي و حدوث الغارات الليلية

بُعَيْد الانتقال إلى حي الحسين حل شهر رمضان، فكانت استعدادات أم أحمد مجارية للعادة القديمة كتهيئة المطبخ وتحضير الأطباق(النقل، الكنافة، القطائف، الصنوبر و الزبيب، عصيرقمر الدين). كما نجد دلائل البهجة في زينة المئذنة والزغاريد يوم اتضاح الرؤية، الزيارات و السمر في الليالي الرمضانية "حيث تدار الأحاديث على قزقزة اللب و الجوز و الفستق." أما العيد في خان الخليلي ففيه ابتياع اللبس الجديد و فرحة النساء بتحضير الكعك إذ قالت الست دولت "أما سروري أنا بالعيد ففي العجن و النقش ورش السكر و الحشو بالعجمية". كما نعيش مع أفراد هذه العائلة أوقات قلق عند انطلاق صفارات الإنذار و الهروع إلى المخبأ وقت الغارات الجوية على القاهرة فكانوا في "ذعر واضطراب هو التعذيب عينه". 
و في المقهى كانت أحاديث الرجال تدور حول الغناء (منيرة، عبد الحي، المنيلاوي)، الزواج و أيضا عن أخبار الحرب.

دوامة الفشل و الكبرياء في شخصية أحمد عاكف

في رواية خان الخليلي لنجيب محفوظ تركيز على شخصية أحمد عاكف: أجبر أحمد على الإنقطاع عن الدراسة بعد الباكالوريا بعد أن أحيل والده على المعاش بسبب إهماله و تطاوله فامتهن وظيفة صغيرة لينفق على الأسرة. ثم تحول سخطه و حنقه على عدم إتمام دراسته إلى "اعتداد كاذب بمواهبه"، فسعى لتحقيق المجد بمحاولات باءت بالفشل (دراسة القانون، الدراسة العلمية النظرية، الأدب و كتابة المقالات). ففي سن الأربعين كان يخاف الدنيا و يخجل كثيرا من النساء، و كان يجد في قراءة الكتب ملجأ : "كتب المنفلوطي والمويلحي و شوقي و حافظ و مطران و مجموعة من الكتب الأزهرية". في مقهى الزهرة كان ينفرد بأحمد راشد المحامي المثقف الذي حدثه عن فرويد، كارل ماركس و الاشتراكية، نيتشه، أرسطو و صراعات الدول الكبرى، فبذلك يترفع عن عامة الناس .و لكن أيضا 
جعله كبرياءه يحقد على أحمد راشد لأنه تحدى ثقافته.

الأخوان أحبا نوال: أحمد الخجول و رشدي الجريء 

عرف أحمد الحب في شهر رمضان و كان الخجل سيد الموقف إذ لم يتجاوز النظرات المتبادلة من خلال النافذة. و لما التحق رشدي، الأخ الأصغر، بالعائلة في خان الخليلي على إثر نقلة في وظيفته، رأى البنت و سعى لملاقاتها و توطيد العلاقة حتى مع أهلها و نجح في ذلك، وكان متحررا يهوى اللهو و السهر على عكس أخيه. فأُعجب أحمد بجسارة أخيه و لسعته الغيرة و لكن كبرياءه و حبه الشديد لأخيه جعلاه ينسى الغيرة و يتنازل بدون مبالاة.

النهاية

 لم تكتمل قصة الحب بالزواج إذ كان على رشدي أن يصارع المرض بمساندة أسرته و خاصة أخيه. بعد وفاته طلبت الأم الرحيل من خان الخليلي واصفة إياه ب"الحي الشؤم". فكان الوداع حيث فاضت المودة بين أحمد و أصحابه بالمقهى والحي الذي تلألأ ببدر نصف شعبان: "و قد اكتسى الحي بغلالة فضية بددت وحشة الليل، و أضفت على المكان و الممرات سحرا".   

   









الحفيدة الأمريكية للكاتبة إنعام كجه جي: عراقية أم أمريكية؟

  ا لحفيدة الأمريكية للإعلامية و الكاتبة العراقية المقيمة في فرنسا إنعام كجه جي ، هي رواية صدرت سنة 2008 تضم 197 صفحة، رُشّحت لنيل جائزة ال...